الرهبنة الفرنسيسكانية بمصر، إقليم الأخوة الأصاغر

إنجيل الشفاء لمُعجزات الشِّفاء في بشارة القدِّيس مَرقُس” أعداد الأب: مينا حنا

0

مُقدمة عامّة

إنَّ مَوضوع المُعجزات هو للمسيحي العائش في ذهنيّة مُتشرّبة بالعقلانيّة العلميّة الموضوعيّة، لهو مِن أصعب المواضيع اللّاهوتيّة وأشدّها تعقيدًا. ولكنْ مهما كان هذا الموضوع صعبًا ومُعقدًا، فلا يجوز تجاهله. فالمعجزات تُمثّل لدى كثيرين إحدى ركائز الإيمان. والكتاب المُقدَّس، في كلا العهدين القديم والجديد، يحتوي على روايات كثيرة للمعجزات. بحيث يُشكّل إهمالها إهمال جزء أساسيّ مِن الوحي. فلقد كان للمعجزات في العهد القديم أهميّة كبيرة. وعندما يتم التحدث عن المعجزات، كثيرًا ما يتم تصوّرها أعمالاً خارقة، يكسر بها اللهُ نظامَ الطبيعة المعتاد. فأنْ تُشرق الشمس كل يوم، لا يُرى في ذلك معجزة. أمَّا أنْ تُظلم الشمس ولا تعود تعطي ضوءًا.

تُعدُّ تلك النظرة ليست على جانبٍ كافٍ مِن الدقة. فالكتاب المقدس يرى في المعجزة علامة تدخل الله. سواء كان ذلك في المجرى الطبيعيّ للأمور، أم في تغيير هذا النظام المعتاد للطبيعة.

لذلك يُعَدُّ الخلق، المعجزة الأولى التي صنعها الله. فالإيمان بالخالق هو الإيمان بأن الطبيعة لم تكوّن نفسها بنفسها، بل أنَّ ثمَّة إلهًا تدخَّل بقدرته الفائقة الطبيعة ليخلقها. فكل ما صنعه الله في الخلق هو عجائب. والمعجزة هي علامة وجود الله، وعلامة قدرته. فلقد آمن شعب بني إسرائيل عميق الإيمان على مر تاريخه، بتدخلات الله العجيبة، الذي طالما أحاطهم بعنايته الفائقة. فقد أنقذهم مِن أيدي جميع أعدائهم. ويُعدُّ حدث الخروج مِن أرض مصر، المعجزة الكبرى في تاريخ هذا الشعب (را. خر 14). كما أيّد الرّب أنبياءه الأبرار، بعدد وفير مِن المُعجزات والأعاجيب. أمّا العهد الجديد فقد قدَّمَ لنا عددًا هائلاً مِن المُعجزات التي أجراها الرّب يسوع في الأناجيل الأربعة. كما سجَّلَ كاتب سفر الأعمال المُعجزات والعجائب، التي أُجريت عن يد الرسل.

ومِن بين كُتَّاب العهد الجديد، نجد القديس مَرقُس، والذي يمتاز كتابه بالشّهادة الحيّة والتّقليد المختصر. فلقد سجّل أقوالاً وأعمالاً للربّ يسوع، بأسلوبٍ فريد. إلّا أنَّ الخُطب أو العظات الّتي يدونّها، قصيرة وقليلة. لأنّه مِن جهة أخرى قد اهتم بالغ الاهتمام ببشارة الأعمال.

لذلك، تكمُن إشكاليّة هذا البحث في أنَّ كثيرين يجتهدون في تفسير الكتاب المقدس بعهديه ولا سيّما الأناجيل. ومِن بين هؤلاء، يوجد البعض يطرحون فرضيات كثيرة حول نصوص الأناجيل. تلك الفرضيات تكون أحيانًا غير نزيهة. فنجدهم تارة يحمّلون النص أكثر مما يوحي به، وتارة أخرى يُشكّكون في بعض الأحداث المدوّنة في تلك الأناجيل مُدَّعين أنها إمّا رموز أو مبالغة كلاميّة من الكاتب. ومِن بين تلك الموضوعات المثيرة للنقاش والجدال، موضوع المُعجزات الوارد ذكرها في العهد الجديد. وتأتي بشارة القدِّيس مَرقُس في مقدمة تلك الأسفار التي يتناولها المُفسّرون، بسبب كثرة المُعجزات التي وردت بها. حيث أنَّ أغلب المُعجزات التي دوَّنها القدِّيس مَرقُس في بشارته هي معجزات شفاء أجراها الرّب يسوع نفسه. ومِن بين تلك المُعجزات، مُعجزات الشّفاء المُرتبطة بإخراج الشياطين. وهذا ما يدفع الكثير مِن الدّارسين إلى أنْ يبحثوا في حقيقة تلك المعجزات وارتباطها بالأرواح الشريرة. هل كانوا مرضى أمراض جسمانيّة، أم نفس جسميّة؟ أم كانوا حقًا تحت سلطان تلك الأرواح الشريرة؟ وما هو نوع الشِّفاء الذي نالوه مِن الرّب يسوع؟ لذلك فالمُراد من هذا البحث هو التعمّق أكثر في إنجيل القدِّيس مَرقُس، الذي بالرّغم مِن قِلة إصحاحاته، إلاّ أنَّه هو الأقدم، بل وأصل الأناجيل الإزائيَّة.

بجانب هذا الموضوع الشائك والمُثير للجدل، نُود أن نعرف أيضًا من خلال هذا البحث ما هو الدّافع مِن سَرد كُلَّ هذا العدد مِن المُعجزات في إنجيل واحد؟ وما هي الأهميِّة اللّاهوتية وراء مُعجزات الشِّفاء في بشارة القدِّيس مَرقُس؟ كيف نفهمها، وكيف نستفيد منها في حياتنا الحاضرة؟

لذلك، يأتي هذا البحث بعنوان: ” مُعجزات الشّفاء في بِشارة القدِّيس مَرقُس”، وسيتم تناوله في مقدِّمة عامّة ثم ثلاثة فصول. يأتي الفصل الأوّل بعنوان: “معجزات الشّفاء في الكتَّاب المُقدَّس والعالم الهلّينيّ”، ويبدأ بتمهيد ثم أربع نقاط أساسيَّة، وهي:

أولاً، المقصود بمعجزات الشّفاء من ناحية الكلمات والألفاظ المستخدمة.

ثانيًا، معجزات الشفاء في العهد القديم.

ثالثًا، معجزات الشفاء في العالم الهلّيني.

رابعًا، معجزات الشّفاء في العهد الجديد ثم خلاصة الفصل.

أمَّا الفصل الثاني فيأتي بعنوان “بشارة القديس مَرقُس، شفاء وحُرّيَّة”، وفيه يتم تناول مفهوم وطبيعة معجزات الشفاء في بشارة القديس مرقس بوجه عام، ثمَّ تصنيف تلك المعجزات إلى ثلاث نقاط: أوَّلًا، شفاء الممسوسين. ثانيًا، شفاء مرضى الجسد وغفران الخطايا. ثالثًا، مُعجزات ينفرد بها القديس مُرقس. ثم خلاصة هذا الفصل. أمّا الفصل الثالث فيأتي بعنوان “الأهميّة اللّاهوتية لمُعجزات الشِّفاء في بشارة القدِّيس مَرقُس”. وينقسم إلى نقطتين أساسيتين: أولاً، تحليل روائيّ لمعجزة شفاء إنسان به روح نجس (مر 5/ 1-20). ثانيًا، الأهميّة اللّاهوتية لمُعجزات الشِّفاء في بشارة القدِّيس مَرقُس، ثُمَّ خُلاصة الفصل.

يُستخدم في هذه الدراسة، الكتاب المقدس، الطبعة اليسوعيَّة (دار المشرق، بيروت، 2006).

Leave A Reply