الرهبنة الفرنسيسكانية بمصر، إقليم الأخوة الأصاغر

مقال للأب د/ يعقوب شحاته الفرنسيسكاني

0

دولة الڤاتيكان

المفهوم والنشأة والتطور

تُعد دولة الفاتيكان الحالية أو دولة الكرسي الرسولي الشكل الأخير لدولة الكنيسة أو الدولة البابوية التي نشأت في إيطاليا حوالي عام 800م، واستمرت في الوجود حتى عام 1870، عندما غزت قوات الملكية الإيطالية مدينة روما واستولت عليها، مما حدا بالبابا بيوس التاسع إلى حبس نفسه داخل أسوار الفاتيكان احتجاجا على هذا الغزو، ونشأت هكذا ما يعرف ب”المسألة الرومانية” (la questione romana) أو مسألة “حبيس الفاتيكان” أو “أسير الفاتيكان”. وأعيد إحياء هذه الدولة من خلال معاهدة اللاتيران سنة 1929 التي أبرمت بين الكنيسة الكاثوليكية من جهة والدولة الإيطالية ويمثلها الزعيم الإيطالي موسّوليني من جهة أخرى. وبمقتضى هذه المعاهدة اعترفت الدولة الإيطالية رسميا بدولة الكرسي الرسولي داخل حدود منطقة الفاتيكان الحالية الكائنة داخل مدينة روما، وعليه أقيمت علاقات ديبلوماسية يسودها الاحترام والتعاون الطرفين 

الدولة البابوية على مدار التاريخ

ا – معنى الدونة البابوية ونشأتها

نعنى بالدولة البابوية تلك الأراضي التي يباشر فيها البابا سلطة مدنية أيضأ. وككل دولة مستقلة يحق لدولة الكنيسة أن يكون لها بريد ومواصلات ومالية ونقود وإذاعة خاصة. كذلك أن يكون لديها كل المؤسسات التي تميز أي دولة مستقلة.

وعن ضرورة السلطة الزمنية وفائدتها قامت مناقشات حادة بن مؤيد ومعارض عادت كلها بالضرر على مكانة البابوية والكنيسة. أما بعد الحرب العالمية الثانية التي أظهرت مدى جدوى ومنفعة هذه الدولة فيجب الاعتراف بأنه من المفيد للجميع أن يكون للبابا دولة مستقلة ولو اقتصرت على بضع كيلومترات من الأرضي. والواقع أن الدولة البابوية اليوم لا تسعى إلى أن تكون قوة أرضية عظمة، بل تهدف الى ضمان سلامة البابا وسيادة الكنيسة في أوقات الحروب والاضطرابات أيضأ.

ونشأة الدولة البابوية لم تتحقق في زمن معين بل هي نتيجة نمو عبر الأجبال قاد إلى قيام تلك الدولة. وقد كالت حقيقة قائمة قبل أن يكون لها كيان قانوني معترف به وقبل أن تباشر مهاماً سياسة أو زمنية في الداخل أو الخارج.

فمنذ أيام الأباطرة الرومان الوثنيين والاضطهادات كانت الكنيسة تملك عقارات داخل روما وفي ضواحيها. وكان الإمبراطور قسطنطين قد أهدى لأساقفة روما قصر اللاتيران بروما؛ كما وأن نبلاء كثيرين قدموا بعد ارتدادهم القصور والأراضي هدية دائمة للكنيسة، غير أن كل ذلك لم يشكل بعد “الدولة الكنسية”. بل كان يعني أن للكنيسة الحق – كأي شخص معنوي – أن تملك وتبرم اتفاقيات صالحة قانوناً في شأن الممتلكات.

بعد أن نقل قسطنطين عاصمة الإمبراطورية من روما إلى بيزنطة صار البابا أهم وأبرز شخصية في الغرب. والظروف التاريخية لعبت دوراً في أن يصبح الباباوات الممثلين الحقيقيين لروما. ولقد ثبت ذلك اثناء غزوات البرابرة. فعندما داهم الخطر روما وصارت مهدده بالدمار تماماً على يد “ألاريك” (408) ثم “أتّيلا” (452) ثم “جنسريك” (455) هو الذي خاطر بحياته وانقاذ المدينة الخالدة من الخراب المحتم.

وبعد سقوط القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية سنة 476 وانتقال الحكم من ملك بربري الى ملك آخر، كانت البابوية هي السلطة الوحيدة الثي صمدت ولم تقع تحت سيطرة أحد. وبما أن الإمبراطور كان يقيم بعيداً في القسطنطينية، فالشعب الروماني لم يكن يشعر بسلطته، وفي جميع الملمات والتهديدات كان يلجأ لا إلى الإمبراطور أو إلى ممثله في “رافنّا” بل الى أسقف روما. بهذا تقلد البابا عملياً مهمة حماية روما وسكانها. فالفضل يعود للباباوات أن روما — وقد استولى عليها الغزاة الشماليين سبع مرات خلال فترة وجيزة من الزمن – لم ينلها الدمار كما حدث لأفسس وكورنتس.

حوالي سنة 600م كان للكنيسة الرومانية ممتلكات في جميع انحاء إيطاليا صقلية وسردينيا وكورسيكا، وأيضاً في غاليا (فرنسا الحالية) وفي النمسا وشبة جزيرة البلقان وإسبانيا وأفريقيا الشمالية. ومن إيرادات هذه الممتلكات كانت تبنى الكنائس والأديرة، ويُنفق منها على الإكليروس والفقراء والمحتاجين. في نلك الحقبة كان البابا يُعد أكبر مالك للأراضي ليس في ايطاليا فحسب بل وفي أوروبا أبضا. وكان يمارس سلطة سياسية عظيمة رغم أنه لم يكن معترفاً به رسميا كحاكم مدني.

2– نشأة الدولة البابوية ونموها

اكتسب الباباوات سلطاناً مدنياً حقيقياً له كيان قانوني في القرن الثامن فقط، وعلى يد بيبين ملك الإفرنج. وقد ثبت “شارل الكبير” (شارلمان) و”أكتون” الأول منحة بيبين وزادوا عليها.

  • نشأة “الدولة البابوية” قانونياً وسياسياً

منذ أن قامت قبائل “اللونغوبارد” (Longobardi) “اللومبارديين” بغزو إيطاليا (سنة 568) وهم يشكلون تهديداً مستمراً لروما. ولقد لجأ الشعب الروماني إلى إمبراطور القسطنطينية ليحميهم من هؤلاء البرابرة الغزاة، غير أن الإمبراطور كان في حالة ضعف سياسي وعسكري شديد، ولم يكن في مقدوره حماية أراضيه. فتجاسر اللونغوبارد واستولوا سنه 749 على ما تبقى من ممتلكات الإمبراطورية الشرقية في إيطاليا الوسطى، وأخدوا يقتربون من روما. وفي محاولة لإنقاذها توجه البابا اسطفانوس الثاني (752־757) سنه 755 إلى ملكهم “أستولف” في مدينة “بافيا” يلتمس منه أن يمتنع عن مهاجمة المدينة المقدسة، ولكن دون جدوى.

فعبر البابا جبال الألب طالبا حماية ملك الإفرنج (الفرانك) “بيبين القصير” (Pépin le Bref). وفي 6 فبراير 754 كان أول لقاء بين الكنيسة وشعب الفرانك (الإفرنج). وكان بداية تعاون استمر وسط صعوبات كثيرة حثى نهاية العصور الوسطى بين البابوية والإمبراطورية. حتى تلك اللحظة لم يكن قد سبق للبابا أن عبر جبال الألب، بل كان لجوئه دائما إلى القسطنطينية حيث يقيم إمبراطور الشرق. أما وأن يسلك الآن البابا اسطفانوس الثاني طريق الشمال طالباً مساعدة الإفرنج بدلاً من طريق الشرق فهذا يعني اتجاه جديد للبابوية. وفي “سان دينيس” بفرنسا تعاهد كل من البابا وملك الفرانك على صداقة دائمة. ومن جهته اقسم “بيبين” ومعه ابناه شارل وشارمان بحماية الكنيسة الرومانية وممتلكاتها وشخص البابا٠ وخلع البابا على بيبين لقب “باتريتسيو” (Patrizio) ويعني (حامي روما) وكان ممثلي إمبراطور الشرق في إيطاليا يحملون هذا اللقب، وكان يعني حماية خاصة لروما وللكرسي الرسولي، وبهذا تم الوفاق والاتحاد بين السلطة الزمنية والروحية. فمن ناحية نالت المملكة الكارولنجية ثقلاً معنوياً عالمياً باعتراف البابا ضمناً بكيانها؛ ومن ناحية أخرى حصلت البابوية على الحماية الضرورية في تلك الأزمنة العصيبة بعدما لم تجدها في إمبراطورية الشرق المتداعية.

ووفاءً بالوعد أرسل الملك “بيبين” عدة سفارات إلى ملك “اللونغوبارد” يطالبه بالتراجع عن عزمه وإعادة ممتلكات الكنيسة المغتصبة. وإزاء رفض ملك “اللونغوبارد”، نزل ملك الفرانك بجيشه مرتين إلى إيطاليا (سنة 754) و (سنة 756)، وهزم اللونغوبارد في “بافيا” سنة 754، فانسحبوا من المناطق المغتصبة التي أصبحت بحكم قوانين الحرب. غير أن “بيبين” قدمها “هدية دائمة” إلي القديس بطرس وخلفائه. ورمزاً لذلك جمع الملك مفاتيح أبواب المدن المهداة ووضعها على قبر القديس بطرس. فصار البابا منذ ذلك الحين رئيس دولة بصفة رسمية.

وكالت “منحة بيبين” كما دعيت تضم الدوقية الرومانية (روما ومناطق عن يمين ويسار نهر التيبر) و”بينتابولي” وهي خمس مدن هي: سينيغاليا – فانو — بيزارو – ريميني – انكونا) وإمارة رافنّا التي كانت تخضع لإمبراطور الشرق. كل هذه المناطق أطلق عليها اسم (Patrimonium Petri) أي (ميراث بطرس).

ب— الاعتراف بمنحة بيبين

بعد مرور عشرين سنة من هذه الحوادث، وكان “بيبين” قد توفي سنة 768، وخلفه ابنه “شارلمان” – وكان على السدة البطرسية البابا أدريانوس الأول (772־795) – حاول اللونغوبارد من جديد استعادة الأراضي التي آلت إلى البابوية. فاستولى “ديسيديريوس” (Desiderio) ملكهم على كثير من البلدان واقتربوا من روما ذاتها. فاستغاث البابا “أدريانوس” ب”شارلمان” الذي هب في الحال وهزم اللونغوبارد من جديد سنة 773. وأسر “ديسيديريوس” ملكهم. وفي ليلة عيد القيامة سنة 774 أثبت رسمياً “منحة بيبين”، بل وأوسع من نطاقها حتى أصبح البابا سيداً لمعظم إيطاليا الوسطى. وفي المقابل قلده البابا لقب “مواطن روماني”، وهكذا صار حامياً للدولة البابوية.

في سنة 962 أقر الإمبراطور “أكتون الأول” الدولة البابوية” وزاد من رقعة نفوذها كما وأن الكونتيسة “ماتيلدا” المتوفية سنة 1115، تركت للبابوية كل ممتلكاتها في شمال إيطاليا (بولونيا وغيرها من المدن). وفي سنه 1215 أصدر الإمبراطور “فريدريك الثاني” مرسوماً يقر فيه ب “ميراث بطرس”. وخلال القرن الثالث عشر آلت إلى البابوية “كونتية فينوس” في جنوب فرنسا. وفي حبرية البابا أوربانوس الثامن (1623־1644) بلغت الدولة البابوية أوج اتساعها.

في القرن الحادي عشر، تم تأسيس الهيئة الإدارية للدولة (الكوريا الرومانية) ووضع أساس الدبلوماسية البابوية، التي بدأت سلسلة من العلاقات الدبلوماسية بين البابا والملوك والأباطرة، ثم مع الدول الحديثة التي أخذت في الظهور.

ج- تداعي الدولة البابوية

ومن القمة بدأ الانحدار. فقد صارت الدولة البابوية عُرضة للنهب. كما وأن الحالة الاقتصادية خلقت صعوبات شديدة في إدارة الدولة. وزاد على ذلك أن العقلية التنويرية التي ظهرت في هذه الحقبة وأخذت تنتشر، لم تكن تقبل أن يكون للبابوية سلطه مدنية.

في سنة 1791 استولى جيش الثورة الفرنسية على ممتلكات البابوية بفرنسا الجنوبية كأفينيون ومقاطعة “فينسّين” (Venaissin) (التي تم ضمها عام 1791). وفي سنة 1810 ضم “نابليون” إلى فرنسا كل أراضي الدولة البابوية، غير أنه في مؤتمر “فيينّا” الذي انعقد سنة 1815 لتسوية الأمور في أوروبا، تمت استعادة السلطة البابوية الزمنية وحقوق الكنيسة وامتيازاتها، بفضل الإنجازات الدبلوماسية للكاردينال إركول كونسالفي.

في عهد البابا غريغوريوس السادس عشر (1831-1846) قامت في إيطاليا أولى الحركات الثورية الرامية إلى طرد حكام الإمارات الإيطالية الأجانب، لإقامة دولة واحدة. إلا أن البابا استطاع بمعاونة فرنسا والنمسا القضاء على تلك الحركات.

          وخلفه بيوس التاسع (1846-1878) فبدأ عهده بالعفو الشامل عن المسجونين العاديين منهم والسياسيين. وكان لعمله هذا أبلغ الأثر. ولما أدخل في الدولة تغييرات ديموقراطية زادت شعبيته، ونادى به الجميع رمزاً للحرية والاستقلال والوحدة، لا بل أن الكثيرين رأوا في بيوس التاسع الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يوحد الصفوف ويطرد المستعمرين ويقيم دولة قوية مستقلة.

          إلا أن الأحوال تبدلت سنة 1848، إذ اندلعت الثورات في كل مكان تطالب البابا بيوس التاسع بأن يقوم بمحاربة النمسا وطردها من الأراضي الإيطالية التي تحتلها. لكن البابا رفض بشدة هذا العرض وقال إنه كنائب للمسيح وكأب للجميع لا يمكنه محاربة دولة كاثوليكية. فانقلب الحب له إلى عداء، وصار اسمه موضع احتقار وكراهية بعد أن كان مبارك على كل لسان.

          في نفس السنة ثار الشعب في روما ذاتها يطالب البابا بمحاربة النمسا، وبإقامة حكومة ديموقراطية للدولة البابوية. فجدد البابا رفضه، فما كان من بعض الثوار إلا أن أطلق النيران على القصر البابوي فمات البعض. فرضخ البابا لإرادة الشعب وسلم مقاليد الحكم إلى أحد الثوار، ولما زادت الحال سوءاً ترك روما ولجأ إلى مدينة غاييتا (Gaeta).

          عند ذلك أعلن الثوار روما جمهورية؛ غير أن النمسا استطاعت أن تستولى على شمال الدولة البابوية، بينما هرعت فرنسا تطرد الثوار من روما، وتعيد البابا إلى عرشه سنة 1850.

          في سنة 1862 قامت قوات غاريبالدي (Garibaldi) وهو أحد الثوار الماسونيين المتطرفين المعادي للكنيسة وللبابا بالتحرك من نابولي تريد اقتحام روما؛ إلا أن جيوش فيكتور عمانوئيل الثاني (Vittorio Emanuele) ملك مقاطعة البيومنتى (Piemonte) الذي اختاره الثوار زعيماً لحركة توحيد إيطاليا، منعت القوات الغاريبالدية من متابعة زحفها على روما خوفاً من ردود الفعل العالمية.

في سنة 1864 وقعت معاهدة بين إيطاليا وفرنسا تنص على أن تنسحب القوات الفرنسية من الأراضي البابوية التي أتت إلى لحمايتها، مقابل أن تقوم إيطاليا باحترام الممتلكات البابوية وحمايتها. لكن إيطاليا لم تحترم المعاهدة. فما أن جلت القوات الفرنسية حتى هاجم غاريبالدي الدولة البابوية سنة 1966. وكان هذا الهجوم مدبراً باتفاق سري مع حكومة إيطاليا. غير أن فرنسا لم تسكت وأرسلت جيوشها التي طردت المعتدين وبقيت روما في حوزة البابا.

          في سنة 1870 اندلعت الحرب بين فرنسا وبروسيا، فدعت فرنسا قواتها المرابطة في روما، وبرحيل هذه القوات فقد البابا كل حماية وبات مؤكداً سقوط روما. في سبتمبر من نفس العام أرسل الملك فيكتور عمانوئيل إلى البابا بيوس التاسع رسالة يطلب منه فيها أن يسمح للقوات الإيطالية أن تتخطى الحدود البابوية لتحتل المواقع اللازمة لحماية البابا ضد مطامع الثوار وحفظ النظام. فرفض البابا على الفور. وقبل أن تصل إجابة البابا كانت القوات الإيطالية قد تخطت الحدود واتجهت نحو روما. فصدرت الأوامر للجيش البابوي بأن ينسحب دون مقاومة. وفي 20 سبتمبر أحاطت القوات الملكية بأسوار روما وبدأت في قصفها بالمدافع، ودخلت الجيوش المغيرة، وانضمت إليها جموع الحاقدين على البابا والكنيسة، حيث أباحت لنفسها النهب والتدمير، ولم ينجو من أيدي المخربين إلا الجزء الذي حمته القوات الإيطالية، وهو الجزء الذي يحتوي على القصر البابوي وكنيسة القديس بطرس وبعض المنشآت الأخرى.

وقد احتج البابا على هذا الغزو لمدينته واتهم إيطاليا بشن الحرب على دولة ذات سيادة، وهي دولة البابا. ومنذ ذلك التاريخ انعزل البابا في الفاتيكان، واعتبر نفسه سجيناً بإرادته احتجاجاً على الاستيلاء غير المشروع على دولة الكنيسة. وفي 10 نوفمبر 1870 أصدر قرارا بحرم كل الذين استولوا على ممتلكات الكنيسة. ومات بيوس التاسع في 7 نوفمبر 1878 عن عمر يناهز 86 عاماً. ويعتبر من أعظم البابوات الذين اعتلوا السدة البابوية.

          ومن أعماله المشهورة: تحديد عقيدة الحبل بلا دنس سنة 1854، وعقد المجمع الفاتيكاني الأول (8 ديسمبر 1869-18 يوليو 1870)، والذي أُعلنت فيه عصمة البابا من الخطأ عند إعلان عقيدة ما.

          في 20 سبتمبر 1870 كانت نهاية “الدولة البابوية” وبداية “المشكلة الرومانية” كما دُعي الوضع الجديد الذي نتج عن قيام الوحدة الإيطالية على حساب الممتلكات الكنسية وبالتالي كان السؤال؟ كيف يمكن التوفيق بين الوضع الجديد وبين ضرورة حماية وضمان حرية البابا والكرسي الرسولي واستقلاله؟

ولم يكن الصراع الذي نتج سياسياً فقط بل دينياً أيضاً، إذ أن العناصر التي عملت على توحيد إيطاليا وصارت تتحكم في مصيرها، كانت في غالبيتها ماسّونية معادية للكنيسة وتبغي القضاء عليها.

غير أن بعض العناصر المعتدلة في صفوف الحكام رأت أنه من الضروري ولمصلحة كلا الطرفين الوصول إلى اتفاق يحل المشكلة القائمة.

وبديهي أن احتلال روما كان يعتبر خرقاً للقوانين الدولية، فوضع إيطاليا في موقف الغازي المعتدي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هضم حقوق البابا لم يكن يمر دون أن يترك أثره السيئ في نفوس الشعب الإيطالي وهو في غالبيته كاثوليكي متمسك برئيسه الأعلى. لذا لم يكن في الإمكان التغاضي عن الأمر.

بعد سقوط الدولة البابوية في عام 1870، وجد الكرسي الرسولي نفسه بدون قاعدة مكانية، وبالتالي بدون أي شرعية سياسية. غير دوره باعتباره تجسيدًا للكنيسة الكاثوليكية. ومع ذلك، استمرت علاقاته الديبلوماسية مع الدول الأخرى، إذ كان لديه علاقات دبلوماسية مع نحو 16 دولة في وقت “قانون الضمانات” (legge delle guarentigie) لعام 1871. وفي وقت توقيع اتفاقيات اللاتيران، كان لديه علاقات ديبلوماسية مع نحو 27 دولة. وأرسلت العديد من الدول بعثات استثنائية إلى الكرسي الرسولي: إمبراطور كوريا في 1904، نجاشي إثيوبيا في 1907 و1908 أو إمبراطور الصين في عام 1910.

بعد وفاة البابا بيوس التاسع اعتلى الكرسي الرسولي كل من: ليون الثالث عشر (1878-1903)، بيوس العاشر (1903-1914) وبنيديكتوس الخامس عشر (1914-1922). في تلك الأثناء كانت سلطة البابا الروحية والمعنوية قد زادت على المستوى العالمي، مما جعل الرأي العام في إيطاليا وصحافتها تطالب بإلحاح أن تعمل إيطاليا على حل المشكلة. وعندما انتُخب بيوس الحادي عشر اشترط على الكرادلة أن يمنح بركته الأولى لروما وإيطاليا والعالم من الشرفة الخارجية لكنيسة القديس بطرس.

وقد اعتبر هذا التصرف من جانب البابا بمثابة فتح صفحة جديدة في العلاقة مع إيطاليا، إذ أن البابوات السابقين كانوا يكتفون بمنح بركتهم الأولى من داخل الكنيسة. وكان هذا يمثل نوعاً من الاحتجاج على ما جدث. ومن جانب إيطاليا فإن الحزب الفاشي الذي كان يحكم إيطاليا في ذلك الوقت، رأى في وضع نهاية للمشكلة ضرورة لابد منها.

فلما أبدي بيوس الحادي عشر في رسالته الأولى أن يهيئ الرب السلام لإيطاليا والعالم، قابلها موسوليني برغبة مماثلة. وبدأت المفاوضات والاجتماعات بين الطرفين في نوفمبر 1928 إلى أن توصلا إلى اتفاق عرف باسم “معاهدة اللاتيران”، لأنه تم التوقيع عليها في قصر اللاتيران بروما بتاريخ 11 نوفمبر 1929.

بمقتضى تلك المعاهدة صارت للبابا دولته ولو في حدود ضيقة جداً، إلا أنها كافية كي يحتفظ باستقلاله عن جميع الدول. فيباشر عمله بحرية تامة دون أن يخضع لأي دولة أخرى. وبما أن دولة الفاتيكان لا تملك جيشاً لحماية سيادتها، لأنها ليست لها مطامع توسعية، فإن إيطاليا بحكم القانون الدولي تحمي تلك السيادة وتحترمها.

وتعترف إيطاليا في المادة الثانية منها باستقلال مدينة “الفاتيكان” الكامل تحت سلطة البابا، وبسيادة الكرسي الرسولي في المجال الدولي، وفقًا لتقاليد ومتطلبات رسالته في العالم.  

ولا شك أن نهاية السلطة الزمنية للبابوات، عادت بالنفع العظيم على البشرية جمعاء، إذ تفرغ البابا من الهموم الدنيوية إلى رسالته الروحية البحتة.

الوضع القانوني 
            إن الكرسي الرسولي، أي مؤسسة الكرسي الأسقفي الروماني للقديس بطرس، كان موضوعًا للقانون الدولي على الأقل منذ العهد الكارولينجي. من هذه الفترة تواريخ السيطرة الفعلية وذات السيادة على إقليم، "ميراث بطرس"، النواة الأولى ل"دولة الكنيسة" أو "الدولة البابوية".
ولكي يتم اعتبار أي دولة ذات سيادة، يتعين على الحكومة عادة امتلاك إقليم والسيطرة عليه. كان هذا هو الحال دون انقطاع، باستثناء ما بين عامي 1791 و1814 وبين 1871 و1929 (إلى حد ما: كانت المنطقة الوحيدة الخاضعة للسيطرة الفعلية هي أراضي مدينة الفاتيكان ولم تقطع الدول علاقاتها الدبلوماسية).
وتنص اتفاقية اللاتيران (1929)، التي أنهت "المسألة الرومانية"، في (المادة الثانية) على: "تعترف إيطاليا بسيادة الكرسي الرسولي في المجال الدولي كمجال متأصل في طبيعته، وفقًا التقاليد ومتطلبات مهمته في العالم". 
            وعلى حد تعبير أحد الأساقفة، فإن الكرسي الرسولي "موجود ويعمل ضمن المجتمع الدولي باعتباره التجسيد القانوني للكنيسة". وعليه تقيم الدول علاقات دبلوماسية معه وليس مع دولة الفاتيكان. فهو الذي يجلس في بعض المنظمات الدولية، مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو الاتحاد البريدي العالمي. وبالتالي، يتم اعتماد السفراء الأجانب لدى الكرسي الرسولي وليس لدى الفاتيكان.
 
إن الكرسي الرسولي والفاتيكان كيانان متميزان على الرغم من أن كلاهما يخضع للبابا:
1-    فالكرسي الرسولي هو كيان روحي ووجوده مرتبط بشخص البابا وليس بإقليم. أما دولة الفاتيكان فهي كيان زمني. والصلة بين هذين الكيانين هو البابا رئيس الروحي والزمني من خلال السلطة المطلقة (التنفيذية والتشريعية والقضائية).
2-    ممثلو الكرسي الرسولي لدى الدول والمنظمات الدولية هم السفراء أو المندوبون الرسوليون. يشير الكتاب السنوي البابوي لعام 2009 إلى أن هذه الهيئة الدبلوماسية تضم 177 سفارة و8 مندوبين رسوليين. 
 
وقصر المستشارية، هو مقر معظم مؤسسات الكرسي الرسولي.
            يتمتع الكرسي الرسولي بوضع مراقب دائم في الأمم المتحدة؛ ويمثل سفيره مصالح الدولة البابوية للفاتيكان.
            وقد حصل على هذا الوضع في البداية بفضل عضويته في الاتحاد البريدي العالمي والاتحاد الدولي للاتصالات الذي عقده الفاتيكان تحت راية راديو الفاتيكان بوست وراديو الفاتيكان. وكانت الأمم المتحدة قد دعت الدول الأعضاء في هذه المنظمات للمشاركة في بعض دوراتها، ومن بينها الفاتيكان.
في عام 1957، من أجل توضيح الموقف، اتفق الأمين العام للأمم المتحدة في ذلك الوقت "يوثانت"، والكرسي الرسولي على أن الكرسي الرسولي، وليس دولة الفاتيكان، هو الذي حافظ على العلاقات مع المنظمة. في عام 1964، تم الاعتراف بوضع المراقب الدائم للكرسي الرسولي في منظمة الأمم المتحدة.
ومنذ ذلك الحين لم يتوقف عدد الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع الكرسي الرسولي عن الزيادة، فمنذ عام 2015، يقيم الكرسي الرسولي علاقات مع 180 دولة.
Leave A Reply