كتاب مصر والفرنسيسكان ترجمة بتصرف الأب يعقوب شحاته الفرنسيسكاني
كتاب مصر والفرنسيسكان
ترجمة بتصرف الأب يعقوب شحاته الفرنسيسكاني إعداد الأب فريدريك دي غيفيلد الفرنسيسكاني الرواية الحقيقيَّة للمذابح الفصل الثالث مع بقاء السبب الحقيقي للحرب المصريَّة الأخيرة حتّى الآن سرّ من أسرار الدبلوماسيَّة، إلّا أننا عانينا من آثارها الكارثيَّة. فمذابح يوم الأحد 1 يونيو 1882، كشفت للمجتمع الحديث، عن مدى قسوة الانتفاضة، إذا أصبح الشعب يائسًا! فقد حذرتنا الفظائع التي ارتكبت في الإسكندريَّة في ذلك اليوم – والتي ما تزال عالقة بالذاكرة – مما قد يحدث غدًا، إذا استيقظت الشعوب من غفوتها، وسلمت قيادها لدعوات الدعاة المتعصبين، فسيكون ذلك وبالًا على الأوروبيين جميعًا، في جميع أطراف إمبراطورياتهم الشاسعة. أولئك الذين لم يتابعوا، في ذلك الوقت، في الصحف العامة تفاصيل هذه الأحداث المأساويَّة، قد يكونون ممتنين لنا لإعطائهم هنا لمحة سريعة عن هذه الصفحة من التاريخ المصريّ، الملطخة كلها بالدماء! بمجرد وصولي إلى الإسكندريَّة، في اليوم الثالث بعد المذابح، بينما كنا ما زلنا نمشي في الشارع على أنقاض الخزف، والأعمال الفنيَّة، والمزهريات الثمينة، التي كسرتها جحافل اللصوص الذين قرروا تدميرها، كرهًا منهم للأجانب، والتي لم يمكّنهم جشعهم، من الاستيلاء عليها كلها. سعيت بكلّ جهدي للاستفسار عن الحقائق، حتّى أتمكن من تسجيل فكرة دقيقة على الأقل عنها في يومياتنا. لم يكن الأمر سهلًا: اتفق الجميع على حقيقة المجازر: دم الضحايا ما زال يسيل في الشوارع، لكن لم يكن بمقدور أحد أن يشير لي إلى نقطة البداية لهذه الدراما الدمويَّة، أو إلى الشرارة التي تسببت في هذه الحرائق الشاسعة؛ لكن العنايَّة الإلهيَّة حضرت لمساعدتي. كنت أتوجه بصحبة الأب م… دائمًا بجرأة، وإذا لزم الأمر في تحدّي للأخطار، لزيارة إخوتنا الآباء في مقر ديرهم الصغير في الرمل؛ وكان علينا أن نعبر أحياء منعزلة في طريق العودة، كان يمكن للأقل خجلًا أن يشعر فيها بالخوف. إن حي الرمل هو موقع ممتاز، يقع على بعد أميال قليلة من وسط المدينة، يمتلئ بالفيلات، والمساكن الأنيقة، ومزين بالزهور، والنباتات العطريَّة بأنواع وألوان مختلفة؛ مثل جنة أرضيَّة حقيقيَّة. وكان الناس يحبون الجلوس على شاطئ البحر، والنسيم المنعش يهرب من حضن الأمواج، في حرارة النهار، ويندفع إلى الشاطئ ليغطيه ويغلفه، وبالتالي يخفف من حرارة الغلاف الجوي بهوائه البارد في ظلّ هذه الزهور الساحرة. كان ميدان الرمل، للأسف! يجذب كلّ يوم أحد، من الطبقة العالية؛ شباب ينشد المرح والتسلية خاصة تلك اللقاءات الحسيَّة، وكان الربّ الصالح مستاءً جدًا هناك. أظهرت منطقة الرمل، أثناء زيارتنا، مشهد الخراب الأكثر رعبًا. حيث كان صمت كئيب يسود في الأزقة المظللة وحول مساكنها الفاخرة، التي هرب ملاكها، وتخلوا عنها. كلّ هذه البيوت الجميلة وجدناها مفتوحة ومليئة بالأثاث الفاخر وملاكها تركوها عندما غادروا على عجل. وباستثناء الأشياء القيمة الثمينة، تركوا كلّ شيء آخر للنهب، لقد ملأتنا الدهشة. بعد زيارة آبائنا وكنيستهم الصغيرة، ذهبنا إلى مقر الراهبات الذي أسسه الأب راتسبون الشهير. عبرنا غابة حقيقيَّة من نباتات الدفلي، كلها مزهرة، مع جو معتدل. كانت أبواب ملجأ السلام هذا مفتوحة لنا؛ استقبلتنا رئيسة دير راهبات القدس السابقة هناك، وقد فوجئت قليلًا برؤيتي أمامها في ظل هذه الظروف، قالت لنا أنهن لا يشعرن بالخوف: لأنهن معروفات بشكل جيد في هذا الحي. التقينا هناك أيضًا، برجل ذو قامة طويلة وهيئة جذابة، يرتدي ملابس أوروبيَّة جالسًا على أحد المقاعد في الردهة أو صالة الاستقبال، وهو يضع على رأسه الطربوش، وهو غطاء الرأس الذي لا غنى عنه للرجال في الشرق. أشارت إليه الرئيسة وقدمته لنا إنّه السيد فلان وهو صديق ومحسن لمؤسستنا: “إن أمامك، يا أبتِ، شاهد عيان لأوّل ضحية للمذابح الرهيبة في يوم الحادي عشر!”. هذه الكلمات، التي أيقظت داخلنا شعورًا مؤلمًا، أثارت فضولنا أيضًا، وتحدث إلينا السيد فلان، بمجاملة مليئة بالطيبة الوديَّة: “لقد كان هذا في فترة ما بعد الظهر، حوالي الساعة الثانية. حيث تشاجر رجلان أحدهما أوروبيًا والآخر مصريًا في الشارع الرئيسي المعروف باسم الراهبات: قام أحدهما بطعن خصمه بسكين. وبصفتي ضابطًا في الشرطة المصريَّة، تدخلت على الفور، لأنني كنت هناك بالصدفة، لسوء الحظ، في ذلك الوقت لم أكن أضع أيّ شارة تدل على مهنتي؛ تم تجاهلي، هل حدث ذلك عن قصد أو عن طريق الخطأ؟ هذا ما لا أستطيع أن اؤكده، اختلط الحشد في تلك اللحظة، لكن العنصر المصريّ أصبح هو الغالب. تعرضت للهجوم وأُسقطت على الأرض، فقام أحد رجالي الذين كانوا يقفون بالقرب مني، محاولًا الدفاع عني، فكلفه ذلك حياته. إذ أحاطني بجسده، فضربوه على الفور وقتلوه. وكان هو الضحية الأولى! بالنسبة لي، تمكنت من النهوض أثناء المعركة الرهيبة، كيف؟ الله وحده الذي يحميني يعلم كيف، وهربت من هناك بمعجزة حقيقيَّة. هربت إلى قسم الشرطة الواقع بالقرب من مكان الحادث. قام الجنود الذين تعرفوا عليّ بالتأكيد، بدلًا من حمايتي، استقبلوني بضربي بأعقاب البنادق، نعم يا أبتِ لقد تلقيت ضربات كثيرة وعنيفة جدًا، في صدري، ما زلت أتألم منها كثيرًا، وأخشى أن أعاني منها بقيَّة حياتي. ولكن الله الرحيم، أنقذني من هناك، ولا أعرف كيف هربت مرة أخرى وعدت إلى منزلي”. هكذا تكلم هذا الرجل، رئيس الشرطة، الكاثوليكي الصالح، صديق الجماعات الرهبانيَّة. هذا هو تسلسل الأحداث في ذلك اليوم بالضبط قدر الإمكان؛ لأنه عادة يصعب الحصول على الحقيقة الدقيقة في مثل هذه الظروف. انطلاقًا من شارع الراهبات، انتشر هذا الحادث الأوّل والهمجي بسرعة مخيفة، مثل البرق، وطال جميع أنحاء المدينة. لم يكن من السهل، من خلال فحص سلسلة الأحداث بعناية، تبرئة الإدارة المحليَّة: فالتقدير العام يعلن أنّه كان هناك سبق إصرار من قِبل زعيم أو قادة الانتفاضة وتواطؤ من ضباط السلامة العامة. على الفور تجمعت جماعات من الرجال والنساء والأطفال من جميع الجهات؛ بدا الأمر وكأنهم يخرجون من تحت الأرض. من الواضح أن كلّ هؤلاء الذين أتوا من القرى المجاورة، لم يجتمعوا معًا في الوقت المحدد، بالصدفة البحتة. لقد كان مخطط متعمد، كمين فظيع. في ذلك الوقت من اليوم، توجه الأوروبيون كعادتهم بسلام إلى المنتزه. ففاجأتهم تلك الجماعات بذبحهم بكلّ شناعة وقسوة تجعلك ترتعد! امتدت إلى كلّ مناطق الإسكندريَّة، شوارعها وساحاتها العامة، في هذا المساء الكئيب، حصلت مشاهد رعب يرفض القلم أن يصفها! لم نستطع تحديد عدد الضحايا! لقد حاولوا، بكلّ الوسائل، جلب القوات النظاميَّة التي كانت تتمركز بأعداد كبيرة في المدينة، لكن لم يتحرك جندي، حتّى أنّه يقال إن الجنود قد اختلطوا مع القتلة. بدأت هذه الأعمال الوحشيَّة الحقيقيَّة، من شارع الراهبات، وانتشرت عبر المدينة حتّى الساعة السادسة! في تلك الأثناء تجولت عصابات من اللصوص في أجمل شوارع المدينة، وحطمت واجهات المتاجر الغنيَّة وحملت كلّ ما يرضيها، في هذه الغزوة الرهيبة. من جانب الأوروبيين، على الرغم من هذه المفاجأة اليائسة، تحلوا بكثير من سمات الشجاعة، وأثبتوا أنّه مع أوّل فرصة لتنظيم أنفسهم، تمكنوا لوحدهم من صد المعتدين البغيضين وتبديد عصاباتهم. في أيّ مكان، مرت فيه تلك الجحافل والعصابات المختلطة، كان الأوروبيون الذين نظموا أنفسهم على غير انتظار، بعددهم القليل، يتجمعون على أسطح منازلهم، بعد أن يحصّنوا المداخل بقوة، ويستخدمون وسائل الدفاع عن النفس، فيسقط المعتدون على الأرض مثل الذباب. وقد استخدم المهاجمون عرباتهم التي ينقلون عليها بضائعهم في نقل موتاهم وبالتالي إخفاء عددهم. ومع ذلك، كانت هذه الحقائق منعزلة للغاية حتّى تمنع المذبحة، فالأوروبيون، رجال، نساء، أطفال، الذين فوجئوا بهذه الأحداث، وعجزوا عن صدها، استمروا في السقوط تحت معاول القتل في جميع أنحاء المدينة. أثناء انتشار أعمال النهب والإرهاب والموت في كلّ مكان، كان قد تجمع جزء من السكان الكاثوليك في كنيستنا الرعويَّة، من أجل الدورة الرسميَّة للقربان المقدس، التي كان يرأسها الأسقف نفسه. لكن بسبب الخوف، والتحذيرات الشديدة، أقيمت الدورة داخل الكاتدرائيَّة في حماية الله. مر اللصوص والقتلة في الجوار واحترموا الاحتفال المقدس. لم يلقَ أحد من المصلين حتفه ضحيَّة للمذابح الرهيبة، في حين أن الآخرين الذين ذهبوا للتنزه كانوا هم ضحايا، بأعداد كبيرة، للغضب الشعبي، حيث ذُبح البعض على حواف الحوض البحري تحت أعين الفرقاطات الإنكليزيَّة والفرنسيَّة التي كانت تتمركز في الميناء، لكنها ظلت بلا حراك. أخيرًا، حوالي الساعة السادسة مساءً، غادر جنود القوات النظاميَّة ثكناتهم، وأخذوا يدفعونهم أمامهم، كما يصطاد المرء قطيعًا شرسًا من الحيوانات، هذه الحشود المتوحشة!